بوسعادة ليست فقط بوسعادة الرسام الفرنسي المسلم نصرالدين ديني الذي خلدّها صادقًا، من دون خلفيات استشراقية مؤذية، كما مر معنا في الحلقة الأولى من تحقيقنا (13/2/2024)، فهي أيضًا مجموعة من المثقفين والكتاب والفنانين الذين يتنفسون الإبداع بأشكال عدة توقفنا عند بعضها، ونحن نتجول عبر أرجاء شوارعها وأزقتها المهملة حتى إشعار جديد. بوسعادة التي أنجبت الإعلامي عبد القادر مام، صانع أفلام وثائقية بثتها “الجزيرة الوثائقية” مفتخرة بنوعيتها، وبتجسيدها الذاكرة العربية والإسلامية التي قفز عليها ممثلو الاستعمار الجديد من بعض مثقفينا المستلبين، هي بوسعادة الكتاب والأدباء والفنانين: عبد الكريم قذيفة، وجمال محمدي، وأحمد أرفيس، والسعيد حبيشي، والفنانين التشكيليين: عبد القدار سالمي، ولبصير توفيق، وأسماء أخرى لم يسعفنا الوقت للتعرف عليها. بيت الرسام نصر الدين الذي تحول إلى متحف كان في إمكانه أن يتحول إلى “لوفر” بوسعادة والجزائر كاملة لو عرف مسؤولوها كيف يوظّفون السياحة خدمة للثقافة كما تجلى لي ذلك مؤخرًا، وأنا أقف عند متحف البحر المتوسط قبالة ميناء مرسيليا أثناء صبيحة ربيعية في عز الشتاء. الشيء نفسه قامت به الكاتبة حياة قاصدي، صاحبة دار نشر “الأمير”، بإمكانات شخصية محدودة، حينما فندّت مزاعم إريك زمور باستقبالها مثقفين وفنانين وخطاطين في أحد أحياء شمال مرسيليا التي يقدمها الإعلام الفرنسي المغرض كبؤرة للسرقة ولبيع المخدرات فقط.
مكتبة في مرآب بارد
بفضل مرشدي الأول، الإعلامي عبد القادر مام، ألقيت القبض على الكاتب عبد الكريم قذيفة متلبسًا بالثقافة التي يعيش من أجلها. كان على وشك مغادرة المكتبة التي يشرف عليها، حينما اعتقلته، وفوتت عليه قيلولة كانت مبرمجة في رزنامته، وبذلك ضحى براحته، وراح يرد على أسئلة المطاردة لكل ما ثقافة نوعية بكافة أشكالها. يشرف قذيفة في مكتب أكاديمية الذاكرة الجزائرية (تسمية مرادفة لشطط غير مبرر في تقديرنا) في مرآب بارد يحتضن عشرات الكتب التي توضع في متناول القراء مقابل مبالغ رمزية. تأسس مكتب الأكاديمية في بوسعادة عام 2020 رغم أنه يمثل ولاية المسيلة المجاورة، وسينطق قريبًا ربما باسم بوسعادة التي تحولت إلى ولاية (محافظة) مؤخرًا. قال الشاعر والكاتب والإعلامي قذيفة غير بعيد عن موقد لا يكفي لضمان الحرارة المطلوبة في عز الشتاء: “حتى لا أموت متقاعدًا ثقافيًا، فكرت قبل سبعة أعوام في تمكين بوسعادة مدينة مسقط رأسي من نشاط ثقافي بدأته بتأسيس فرع للأكاديمية الوطنية للذاكرة الجزائرية التي يرأسها الدكتور جمال ستيتي.
عملت الأكاديمية منذ تأسيسها على تنظيم ندوات ومحاضرات ورحلات ثقافية وتكريمات لوجوه ثقافية عدة. ومن النشاطات الأخيرة تنظيم ندوة عن كتاب “فصيح لهجة أولاد نايل وما جاورهم من قبائل” للأستاذ والشاعر أحمد بن روان، وندوة “المقاومة والثورة” بمناسبة يوم الشهيد”. ورغم عدم تلقيها الدعم الحكومي استنادًا للقانون الذي يدعم الجمعيات الولائية فقط، وليس المكاتب التي يمكن أن تحظى بمساعدة مالية ما في حال بقاء نسبة من الدعم الذي تحظى به الجمعيات ـ أردف قذيفة ـ يلعب مكتب الأكاديمية دورًا هامًا في تنشيط الحياة الثقافية ببوسعادة اعتمادًا على تطوع الداعمين لها والمؤمنين بدورها، وإسهام البلدية في التكفل بمصاريف إيواء الضيوف. في المرآب البارد الذي أجرّه صاحبه لمكتب الأكاديمية بمبلغ رمزي، أكملت حديثي مع الأستاذ قذيفة على مرأى ومسمع سيدتين قصدتا المكتب طلبًا لكتب تغطي كل الجدران، الأمر الذي يحد من البرودة نسبيًا. المرآب الذي تحول إلى مكتب ومكتبة في الوقت نفسه، مكون من كتب شخصية لأعضائه، وأخرى لمتطوعين ولعائلات سبق أن قرأ أفرادها الكتب المهداة، ومن الكتب التي أسعدت كاتب هذه السطور بتواجدها بين الرفوف كتابه “أندري ميكيل: الحكيم عاشق الشرق” بنسختيه العربية والفرنسية. قذيفة الذي أشعل شمعة بدل لعن الظلام الدامس في جزائر تعاني من ثقافة المناسبات والشعارات والولاء السياسي، أخرج لنا كتابنا من مكتبة خشبية تبرع بها أحد نجاري منطقة أولاد سيدي إبراهيم التاريخية، والكومبيوتر القديم هو أيضًا ثمرة تبرع أحد الإخوة المؤمنين بدورنا الثقافي على حد تعبيره. في انتظار خروج العمل الخيري من المساجد واقتحامه المكتبات والفعل الثقافي العام، يبقى قذيفة متحمسًا لتعميق دوره رغم عدم اعتبار الثقافة هما اجتماعيًا حقيقيًا، وتردد طلبة الثانويات والجامعات، وباحثين، وربات بيوت عاديات، على المكتبة، يكفي وحده لمده بطاقة أكبر لتخطي وتذليل عقبات تحتاج استماتة أمثاله لإبطال مفعولها.
لبصير فنان يبدع معزولًا
مع قذيفة الكريم إنسانيًا وثقافيًا، توجهنا إثر محاورته إلى سوق الصناعات التقليدية المبهر والعاكس لروح بوسعادة الروحية والأخلاقية والثقافية، وهو السوق الذي لا يمكن للمواطن البسيط دخوله تفاديًا لوجع ناتج عن غلاء لا يسمح له باقتناء حاجة ما تضرب في عمق ذاكرة مدينته الساحرة، ووحدهم السياح الأجانب الذين يزورون متحف نصر الدين قادرون على شراء بعض التحف، ناهيك عن زوار العاصمة والمدن الكبيرة. مع قذيفة الذي يقذف بكرمه أعداء البخل، وقفنا في الطابق الثاني لمركز الصناعات التقليدية عند لوحات الفنان التشكيلي توفيق لبصير الذي يعرض أعماله في رواق يحمل اسم إدوار فيرشافيلت، هذا الرسام الذي غطى عليه نصرالدين ديني، هو أيضًا أحد رموز بوسعادة التاريخية والثقافية. ولد في مدينة غنت ببلجيكا عام 1874، وتوفي في بوسعادة عام 1955، وهو رسام أخذ الاستشراق الأكاديمي الأستعماري في الإتجاه المعاكس، مثله مثل إتيان ديني، رفيق دربه الفرنسي الذي مات مسلمًا باسم نصرالدين. جاء إلى الجزائر عام 1919 هربًا من الاحتلال الألماني لبلجيكا، وبعد وفاة زوجته، تزوج فيرشافيلت من جزائرية من قبيلة أولاد سيدي إبراهيم، والتي تظهر في عدد من لوحاته. في الرواق الذي يحمل اسمه، تحدث الفنان التشكيلي توفيق لبصير على مرأى لوحاته المتراوحة بين التشخيصية غير التقليدية والتجريدية عن هويته وعن أعماله. لبصير المولود عام 1956 ببوسعادة متخرج من المدرسة الوطنية للفنون التشكيلية بالجزائر العاصمة، ودارس لإخراج الرسوم المتحركة في موسكو، وصاحب أفلام عدة من بينها “حرداقة في المريخ”، و”حرداقة بين الفراعنة”، و”حرداقة النحات”، و”حرداقة الشرير”، و”حرداقة وعمامته”، و”النداء”، و”عوا و..”. عرض لبصير في عدد من المدن الجزائرية المجاورة لبوسعادة والبعيدة عنها، وفي السفارة الجزائرية بموسكو، وفي مثيلتها الولايات المتحدة، وفي متحف نصر الدين ديني، وفي المتحف المركزي للجيش في الجزائر العاصمة، وفي المدرسة العليا للفنون الجميلة بالعاصمة في إطار معرض جماعي. في حديث قصير، رد لبصير على أسئلة “ضفة ثالثة” قائلًا: “أعدت رسم لوحات مستشرقين لسبب تجاري لا يمت بصلة لقناعاتي الفكرية والفنية، وآخر معرفي يقدم فكرة عن طريقة مقاربتهم الشرق. أتأسف لعدم تلقي المساعدة اللازمة لتسويق أفلام رسومي المتحركة، واعتمدت على نفسي للتعريف بها في حدود المستطاع. يتشكل زبائني من هواة الفن وجامعي التحف من الجزائريين والأجانب. لست راضيًا على وضعي المرتبط مباشرة بالحالة العامة التي تعرفها السياحة والثقافة في الجزائر”.
كتاب وكتب
جمال محمدي هو الكاتب الأول الذي التقته “ضفة ثالثة” في بوسعادة حول كؤوس قهوة وشاي على مرأى ومسمع أصدقاء وجيران ارتدوا قشابيات محلية تقي من البرد بفعالية لا يطاولها الشك، وهو نفسه الذي رافقنا إلى ضريح نصر الدين ديني للترحم على روح الفنان التشكيلي الفرنسي المسلم. جمال صاحب كتب “طاهر حناش: عصفور شمال أفريقيا” (2015)، و”بوسعادة مهد السينما الجزائرية” (2015)، و”القصبة في السينما: قرن من التصوير” (2023)، و”التجربة السينمائية الإيطالية” ( 2023). تناول محمدي في هذه الكتب الهامة مسار وسيرة طاهر حناش، رائد السينما الجزائرية على حد تعبيره، والتحاقة بباريس وباستديوهات ضاحية بلا كورت تحديدًا عام 1918، وعمله مع مخرجين وممثلين فرنسيين. دافع محمدي في كتابه الأول عن أطروحة اعتبار فيلم “غطاسين الصحراء” نواة نشأة السينما الجزائرية عام 1952، وقام الراحل حناش بتصوير الفيلم في مدينتي الأغواط، وتوقرت، والأحواز، المجاورة لهما في الصحراء. في كتابه الثاني، تناول محمدي الأفلام التي تم تصويرها في بوسعادة من عام 1923 إلى 2015، ومن بينها فيلم “بوسعادة” للمخرج الفرنسي روني مورو (1923)، و”آفاق الجنوب” (1924) للمخرج الإيطالي مارتو دوقاستي، و”جنوب الجزائر” للفرنسي جاك لي، إلى جانب أفلام أخرى هامة، مثل “شمشون ودليلة” للمخرج الأميركي سيسيل بي دوميل (1946). بوسعادة نفسها، ألهمت مخرجين جزائريين بعد الاستقلال، وفيها تم تصوير أفلام “ريح الجنوب” للمخرج محمد سليم رياض، و”سنعود” لنفس المخرج، وهو أول فيلم جزائري تناول نضال الشعب الفلسطيني، وبعض المناظر الخارجية لفيلم “السري” للمفتش الطاهر، وأفلام المخرج أحمد راشدي. في الكتاب الثالث جمّع محمدي كل الأفلام التي تم تصويرها في القصبة الحي التاريخي والمعروف في العاصمة الجزائرية منذ دخول الفن السابع أرض الجزائر عام1895، ومن أشهر الأفلام على الإطلاق التي تم تصويرها في القصبة فيلم “معركة الجزائر” للمخرج الإيطالي بونتي كورفو. أنهى محمدي باكورة كتبه المرجعية الهامة حول السينما الجزائرية بمعالجته التجربة السينمائية الجزائرية الإيطالية من عام 1964 إلى 1920، وتناول في كتابه الأخير الأفلام الإيطالية التي تم تصويرها في مدينة بوسعادة ملهمة عدد كبير من كل الفنانين الجزائريين والأجانب، ومن بينهم ابنها المغني الراحل مصطفى زميرلي، الذي أنهى حياته فيها معتكفًا إلى أن التحق بربه، وصاحب أغنية “تفضلي يا آنسة” التي كتب كلماتها الشاعر سليمان جوادي. بوسعادة هي أيضًا ملهمة الكاتبين أحمد أرفيس صاحب كتاب “ومضات من تاريخ بوسعادة الكبرى”، والسعيد حبيشي صاحب كتاب “بوسعادة: سياحة، ثقافة، وتاريخ”.
من بوسعادة التي أبهرت العادي والخاص من الناس، كما أبهرت الشاعر إبراهيم قارعلي، الذي خلدّها بدوره لكن شعريًا، انتقل كاتب هذه السطور ليتجول عبر أرجاء باتنة، مدينة البطل الشهيد مصطفى بن بولعيد. هذه المرة، لم يتحدث إليه كتاب وفنانون وإعلاميون ومرشدون كما تم في بوسعادة، وهو الذي تحدث لنخبة نيّرة من مثقفي باتنة بعد أن ألقى محاضرة برمجت قبل المغرب بقليل. أمام أساتذة وباحثين، تحدث كاتب هذه السطور حتى منتصف الليل تقريبًا عن كتبه بوجه عام، وعن كتابه “أندريه ميكيل”، الذي قضى حياته مدافعًا عن الحضارة العربية والإسلامية بوجه عام، وعن اللغة العربية بوجه خاص، والتي أضحت عشيقته الأبدية على حد تعبيره لعبدكم الضعيف قبل وفاته بقليل عام 2021.
من قصيدة “رأيت الله في كردادة” للشاعر إبراهيم قارعلي:
يحميك بعد الله يا بوسعادة
هيهات لم يك غيره كردادة (اسم جبل)
إني رأيت الله في كردادة
الله أكبر هاهنا زيادة
تاج على رأس الأميرة تزدهي
أو أنت في جيد الفتاة قلادة
الشيح والحلفاء قد رقصا لنا
والطير في أشجارنا غرادة
دعني أرى خلف التلال أحبتي
قد أشرقت من مقلتي سعادة
بالله قد أمنت فيك جزائري
بالله لأن حبك كالصلاة عبادة.
بوعلام رمضاني