الرئيسية 8 حقيبة بوسعادة السعيدة 8 شخصيات من بلادي 8 الإمام الهادئ محمد توامة رحمه الله

الإمام الهادئ محمد توامة رحمه الله

ولد الإمام العصامي محمد توامة بن قدور بن حمود عام 1966م بمدينة بوسعادة، وهو ينتمي إلى أسرة عريقة محافظة، إذ كان والده (قدور) من حفظة القران الكريم ومن أوائل المعلمين بعد الاستقلال، وقد عُرف عنه في الوسط التربوي الذي اشتغل فيه زهاء 28 عاما -1962-1990م- الصرامة والكفاءة والانضباط والإخلاص، إذ درّس أغلب كوادر جيل ما بعد الاستقلال في مدينة بوسعادة وما جاورها، ولعل هذه الأسرة الكريمة الوقورة هي من كانت تصقل شخصية هذا الإمام الهادئ، الذي درج في تعلمه عبر مختلف مراحل التعليم، إذ درس الابتدائي في مدرسة الإخوة بوتشيشة والتي كانت تعرف في عهده بمدرسة «الدشرة القبلية للذكور» بحي أول نوفمبر ببوسعادة عام 1972م، انهى الشيخ مرحلة التعليم الابتدائي عام 1978م، لينتقل إلى متوسطة (عائشة الباعونية) ليدرس عاما واحدا خلال الموسم الدراسي 1978/1979م، أكمل دراسته بمتوسطة «ابن خلدون» بحي بلاطو وسط مدينة بوسعادة من 1979 إلى 1983م، ثم وُجّه الى شعبة الأدب العربي بثانوية أبي مزراق المقراني ببوسعادة، التي كانت تعرف بالمعهد الإسلامي مع مطلع ستينيات وأواخر سبعينيات القرن العشرين، والتي كان يدرّس به أغلب الأساتذة العلماء من بلاد الشام والمشرق العربي، ويفد إليه الطلاب من كل أقاصي البلاد.
وبما أن الشيخ محمد توامة كان محبا لعلوم الشريعة وميوله نحو الدرس المسجدي وحلق القرآن والذكر منذ صغره؛ فقد اختار أن يشارك في مسابقة تكوين الأئمة بمعهد سيدي عقبة بولاية بسكرة عام 1988م، فكان له ما أراد وتخرج عام 1990م إماما شابا أين وظف عام 1994م في مسجد «عمر بن الخطاب ببلدية بانيو» على تخوم مدينة بوسعادة، لكنه لم يلبث إلا أشهرا معدودات حتى عاد إلى مسجد الحي -عبد الله بن الزبير- الذي احتضنه صغيرا لما كان طالبا في الزاوية، حافظا للقران الكريم ومجيدا لتلاوته، ودارسا لمختلف العلوم الشرعية على يدي ثلة من المشايخ والأساتذة أمثال الشيخ الإمام أحمد عطلاوي والإمام الشريف عبد اللاوي من أشهر شيوخ المدينة في التحفيظ القرآني آنذاك.
كما تتلمذ في هذا المسجد العتيق المعروف بنشاطه الدؤوب من خلال الحلقات العامة التي كانت تعقد أسبوعيا والندوات العلمية التي تدار سنويا خلال السبعينيات والثمانينيات، فأخذ العلم عن العديد من المشايخ والدكاترة من أمثال الدكتور عامر لعرابي والدكتور موسى عتيق والدكتور عبد القادر لوعيل والدكتور الحواس خالدي، والإمام الخطيب العصامي الشيخ عبد الناصر زوارق والأستاذ لخضر بوتشيشة وعثمان مبروكي، والأستاذ النذير ديلمي وغيرهم.
رافق الشيخ محمد توامة زمرة من التلاميذ الشباب مطلع التسعينيات، فكان مدرسا لهم في ذات المسجد -عبد الله بن الزبير- مُحفّظا لهم القرآن الكريم، ملقنا لهم مختلف العلوم الشرعية ومبحرا بهم في شتى المسائل الفقهية والعلوم الدينية والأدبية حتى غدا منهم الإمام والأستاذ ومعلم القرآن والمهندس والموظف من هؤلاء التلاميذ: الإمام النواري حليتيم ومعلم القرآن جمال الزاوي والمهندس عبد الحميد ناجم والأستاذ فواز سديرة والدكتور عاشور توامة والأستاذ موسى لزرق والأستاذ حمدي عيسى والأستاذ فريد الزاوي والأستاذ جلول طيبي والأستاذ السعيد بوضياف والمرحوم عبد الحليم الزاوي وعمار زواقي وكمال توامة ومبروك تومي وغيرهم.
انتقل الشيخ محمد توامة إلى مسجد ابن تيمية ببوسعادة إماما خطيبا من عام 1996م حتى عام 2001م، ثم حُوّل إلى مسجد «عبد الله بن مسعود» بحي الموامين وسط المدينة أين استقر به المقام تسعة عشر عاما، مُدّرسا وواعظا وموجها فاعلا للخير معية جماعة المسجد، ومتفاعلا مع الجمعيات الخيرية من المدينة من مثل جمعية أحباب المدينة وجمعية سواعد الخير وغيرها في مختلف المناسبات وخصوصا شهر رمضان والأعياد الدينية.
كان الشيخ محمد توامة إماما سمحا ينزع للتجديد والتيسير في نقل فتواه؛ بما يقتضي مساءلة أهل العلم والاختصاص والاعتماد على المصادر الأولى في أعقد المسائل، ولعل هذا نتيجة تمكنه من مواصلة مساره الدراسي في الجامعة، إذ حصل على شهادة البكالويا عام 2009م ليدرس الآداب وعلوم اللغة العربية بجامعة المسيلة، وحصوله على شهادتي اللسانس عام 2012م والماستر عام 2014م (نظام ل م د) بإشراف الدكتور عبد القادر العربي، فأخذ بذلك الكفاية المنهجية والدقة والموضوعية العلمية في تلقي العلوم الأدبية وتقديم الدروس الشرعية، مناقشا أصولها وفروعها وقضاياها حتى انعكس هذا على مراجعة كثير من المسائل والآراء التي فيه لبس في الفهم والإفهام، بما يقتضي المنطق وروح العصر دون مغالاة أو تعصب أو إفراط وتفريط.
قال فيه الدكتور عثمان مقيرش أحد مدرسيه: «كان دمث الأخلاق حييا محبا لطلب العلم والعلماء لايتوانى في قول الحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا وكان متواضعا في غير مذلة، كريم الأصل والمنبت يقدر الشيوخ وأهل العلم».
وقال فيه الأستاذ الشاعر عمر طرافي أحد أقرب أصدقائه وزملائه في مرحلة الماستر:
هادم اللذات ومفرّق الجماعات يتخطّف زميلي المقرّب في مرحلة الماستر وإمام مسجد «عبد الله بن مسعود» إنه الأستاذ :محمد توامة عليه شآبيب الرحمة والغفران أرفع لجناب روحه الطيبة هذا الرثاء :
أهالوا عليه التُربَ وهْوَ المُطيَّبُ
فأهرق دمعي ذا الفراق المُغيِّبُ
وهزّ ضلوعي نعيُه اليوم راحلا
إلى الله …كلُّ الخلق لله آيبُ
يقولون قد مات الإمام فلم أزلْ
أكذّبُ من ينعاه أبكي وأندُبُ
إلى أن تجلى الصدقُ فانهارَ بي البُكا
وأمضيتُ ليلي كاملا أتقلّبُ
تعود بيَ الذكرى إلى الأمس كيفما
 قضينا معا عامين في العلم نطلب
بجامعة نحو المسيلة وجهة
نُيمِّمُها والشَعرُ في الرأس أشيب!!
درسنا على عُمْر تقدّمَ فارقا
 نخوض غمار النقد لا نتهيّب
لعمرك أيام الهناء قد انقضت
سراعا وقد كنّا معا حين نركب
نناقش تحصيلا درسناه جُملة
ونأتي بتفصيل الشروح ونطنب
فواحرّ قلبي كيف ترحل فجأةً
ومازلتُ لِلّقيا أحِنُّ وأرغب
خليلي عذاب البُعد لست أطيقُه
فكيف النوى لوكان للموت يُنسَبُ؟!
لقد كنتُ أقلو النأي عند افتراقنا
وكنتُ وددتُ الدهر نقرا ونكتبُ
كتبتَ قُبيل الموت فلتحذروا الوبا
ولا تجزعوا للموت لكنْ تجنّبوا
فمِتّ شهيدا عند ربّك شاهدا
على الناس فيهم كنتَ تدعو وتخطب
سقى الله مثواك المُطيّبَ في الثرى
وجاد بعفو منه كالغيث يُسكب
رثيتكُ ياابن الأكرمين بأدمعي
فزرني مناما خالصا منك يوهب !
تكفكفُ عَبْراتي وتطفئ لوعتي
وتخمدُ شوقا بات في الصدر يلهب!
ترك الشيخ محمد توامة مخطوطين في الأدب العربي، الأول بعنوان: «جمالية النظم عند عبد القاهر الجرجاني» والثاني بعنوان: «نتاج مصطفى صادق الرافعي _ دراسة جمالية» ومخطوطا في التوجيه الديني سماه: «رسالة الإمام» عكف على تأليفه منذ 2015م، وكان ينوي مواصلة الاجتهاد فيه بحسب شهادة أصدقائه المقربين من مثل صديقه ورفيق دربه منذ أكثر من أربعين عاما الإمام «علي بن شلالي» وكذلك أخوه الأكبر أستاذ الأدب العربي زين الدين توامة والأستاذ زيان السايحي والأستاذ موسى معروف والأستاذ مصطفى بن السراج ومبارك حيدش، والدكتور عمر حمدي وغيرهم، ولعل مضامين هذه الرسالة في مجملها تهدف إلى تعزيز دور الإمام المجتهد المنفتح على قضايا المجتمع ومعالجة مشاكله بما يخدم الإسلام وتعاليمه، ويمكن له في النفوس والعقول دون رتابة وعظية وسلفية نمطية منغلقة على الحياة ومستلزماتها.
توفي الشيخ محمد إثر وعكة مفاجئة ألمت بجسده الضعيف يوم الأحد 22 نوفمبر 2020م بمستشفى البشير رزيق ببوسعادة، حيث فاضت روحه إلى بارئها الساعة الثامنة ونصف مساء عن عمر يناهز 54 عاما، ودفن بمقبرة أولاد احميدة ببوسعادة إلى جانب والده، رحم الله الفقيد الشيخ الإمام الهادئ محمد توامة وأسكنه فسيح جناته.

 

د/ عاشور توامة/

جريدة البصائر

Mohamed

جميع الحقوق محفوطة لموقع بوسعادة انفو 2009 .. 2025
%d مدونون معجبون بهذه: